بقلم : غادة حامد
نزلت من سلم الطائرة تستنشق هواء ذو لسعة باردة يداعب وجهها ذو الملامح الشديدة الوضوح ؛ عينين سوداء واسعتين مكتحلتين، تغطيهما أهداب شرقية طويلة تشبهان عيني الملكة نفرتيتي، و أنف متوسط واضح بارز قليلا و شفتين مكتنزتين تتوسطان وجهها الأسمر .
ملامحها عربية بشكل لا يخطئه من يشاهدها . تغطي شعرها بحجاب يلتف حول رأسها وعنقها ، و ترتدي تي شيرت طويل و بنطلون جينز واسع ..
تخطو خطواتها الأولى في بلاد الفرنجة، أخيرا تزورها لترى بنفسها التحضر والمدنية والتقدم فلطالما سمعت عنهم و شاهدتهم في الافلام.
شاهدت الأناقة والإبهار و التكنولوجيا و جاءت لتعيشها و تلمسها بنفسها، انتهزت أول فرصة للسفر مع عملها، سعت وحاربت حتى نجحت في الحصول على تذكرة السفر هذه لبلاد الفرنجة ..
دخلت المطار بعد رحلة طويلة في الطائرة ، وجدت طابورا طويلا من القادمين ينتظر من أجل ختم جواز السفر بختم الدخول ؛ البعض يعيد ترتيب أوراقه حتى يستعد للقاء ضابط الجوازات الجالس خلف الشباك الزجاجي
ضابط آخر يوزع المسافرين بدقة وحسم علي الشبابيك الزجاجية ، الكل يقف في مكانه حريصا علي ألا يتعدى الخط الأصفر المرسوم علي الأرض ، الكل عيونهم معلقة علي الضباط القابعين خلف الشبابيك . يرقبونهم في صمت و احترام ليحددوا من منهم صارم و من منهم لطيف و يخمنون مع من سيكون لقائهم.
اخيرا جاء دورها، توجهت لضابط أشقر الوجه، وسيم الملامح ، حياها بابتسامة و ألقى عليها التحية ببساطة وود لم تتوقعها، ردت بارتباك ، سألها عن سبب مجيئها ، عدد الأيام التي ستقضيها ، و عدد اخر من الأسئلة التقليدية ، طلب بصمة الأصابع والعين ثم ختم لها بالدخول.. هكذا ببساطة ! الحمدلله ، ها هي تخطو أولى خطواتها في بلاد الفرنجة.
جمعت حقائبها، و أخذت سيارة أجرة للفندق ؛ طلب السائق العنوان، وضعه بدقة علي ال (جي بي اس) في تليفونه المحمول و بدأ يتابع الخريطة المرسومة أمامه علي الجهاز و بدأ العداد في حساب الأجرة .
انطلقت السيارة ، وصلت الفندق، دفعت الأجرة و جرجرت حقيبتها خلفها للفندق، كل شئ يمشي بسلاسة ونظام ، وود .
كم تتمني أن تسير الأمور في بلادها بنفس السلاسة ، لا جدال مع سائق التاكسي حول الأجرة ، ولا السير عكس الاتجاه، إشارات مرور، نظام ، لا وقت يضيع في البحث عن عنوان الفندق ، لا يوجد أي خطأ حتى الآن ، بداية مطمئنة، بلد جميلة، شوارع نظيفة ، أشجار و خضرة في كل مكان ، الناس يحترمون المرور ، لا يعبرون إلا من عند خطوط عبور المشاة ! و لا يتقافزون اما السيارات، سبحان الله ! و الأغرب أن السيارات تقف في الاشارات و تقف لعبور المشاة! و خاصة لذوي الإعاقة و كبار السن والسيدات!
ترى رجالا و نساءا علي كراسي متحركة يمشون بسلاسة في الشارع، تعتلي كراسيهم أماكن مخصصة لعبور المشاة من ذوي الإعاقة، فالرصيف منخفض ممهد لهم ! ما شاء الله ! كل شئ معمول حسابه باتقان .
توجهت نحو المصعد لتتجه لغرفتها، وقفت بجوارها سيدة ذات ملامح أجنبية دقيقة، أخذت ترمقها بنظرات استنكار غريبة ، حتي جاء المصعد، فركبته تجر حقيبتها ، توقعت ان تركب معها تلك السيدة الأجنبية التي تناظر المصعد الى جوارها ، لكنها تلك السيدة تراجعت خطوتين للوراء شاغلة نفسها بالنظر للخلف و كأنها ترفض ركوب نفس المصعد معها!
تعجبت ، و نظرت في المرآة كرد فعل طبيعي عندما أغلق المصعد بابه ، فتنبهت ؛ لقد رفضت السيدة ركوب المصعد معها لأنها محجبة !!
شعرت بغصة في قلبها، بلعت ريقها ، و بلعت معه طعم الإهانة ، لكنها نفضت تلك الفكرة من رأسها، وحاولت أن تقنع نفسها أنه ربما هناك شئ آخر يشغل تلك المرأة، هو سبب نظراتها و تراجعها عن ركوب المصعد.
دخلت غرفة الفندق ، نظرت إلى المنظر الجميل الذي تطل عليه غرفتها ، و استغرقت فيه و في جمال الطبيعة حتي نسيت تماما ذلك الموقف السخيف.
بعد أن قضت فترة من الراحة نزلت لتناول طعام العشاء و التجول حول الفندق للتعرف علي معالم المنطقة ، ارتدت معطفا رماديا خفيفا و خرجت تتأمل كل ما يمر أمام عينيها، فلا تجد الا جمالا و نظاما في كل شئ ؛ المباني العتيقة المبنية من مئات السنين تبدو و كأنها صورة في مجلة تاريخية ، الأشجار ذات الأوراق الصفراء و الحمراء و الخضراء تبارك الخالق ، لم تر مثلهم من قبل !
دخلت إحدي المحال القريبة ، فحيتها الفتاة العاملة هناك أرق تحية ، جالت جولة سريعة في المخل وخرجت ، فأعادت عليها الفتاة التحية و تمنت لها ليلة سعيدة ، انبهرت بذوق و رقة تلك العاملة و بالتحية و بالامنية التي تمنتها لها في النهاية.
هذه العبارات تكاد تكون تكررت في كل محل دخلته في تلك الليلة.
صباح اليوم التالي ؛ استيقظت بكل نشاط وهمة ، تناولت إفطارها، و حياها المحيطين بها علي بوفيه الإفطار بكل رقة و ذوق .
يبدو أنها عادتهم مع الجميع ، إنها عادة طيبة حقا تدخل البهجة و السرور عليك وتجعلك تشعر بأنك شخص مرغوب فيك.
طلبت تاكسي بالتليفون لتتوجه لمكان عملها ؛ ركبت مع السائق الذي جاء في موعده تماما.
وبعد التحية أخذ يتجاذب معها اطراف الحوار؛
- من أي بلد انتي؛
- أجابته باسم البلد العربي الذي تنتمي إليه
- لم أزر بلدك من قبل ، ولكني اتمنى زيارته
- تفضل طبعا ، نحن نرحب بزوارنا.
- لكن اسمحي لي أن أسألك سؤال ، فقط لاني احب ان اتعرف علي ثقافات الشعوب الأخرى
- – طبعا تفضل
- لماذا تغطي النساء شعورهن في بلدك؟
- ( فوجئت بالسؤال )؛ هذا جزء من تعاليم ديننا ، وأعتقد أنه يتشابه مع باقي الديانات الأخرى ؛ ففي المسيحية دائما ما نرى السيدة العذراء تغطي رأسها، و السيدات المسيحيات في زيارتهن الكنيسة يفعلن ذلك، و أيضا في اليهودية تلتزم السيدات المتدينات بغطاء الرأس!
- ممم ، و هل لو تزوجت إحداهن رجلا أمريكيا ستصر علي غطاء الرأس؟
- لا يجوز لنا الزواج من غير المسلمين
- لدي صديقة أمريكية تزوجت من رجل عربي وكان يريد إجبارها علي تغطية رأسها فنشب بينهما النزاع!
- هناك بعض البلدان العربية الإسلامية يكون غطاء الرأس فيها هو عرف أكثر منه إلتزام ديني مثل دول الخليج و إيران مثلا ، فلا بد أن زوج صديقتك هذه ينتمي لإحدى تلك الدول
- ربما!
كانت قد وصلت لمحل عملها، فشكرته و نزلت من السيارة ، وهي تفكر ؛ لماذا يستغربون الحجاب أليس له شبيها في دياناتهم ؟ لماذا يستنكرون العرب ذوي اللحى أليس رجال الدين في الإسلام و اليهودية و المسيحية يطيلون لحاهم ؟ لماذا الأمر مستنكر في الإسلام و عادي في باقي الديانات. رجل الدين في الديانات الثلاثة يغطي رأسه ويلبس رداءا واسعا ، لماذا يتعجبون اذن !!
دخلت قاعة الاجتماعات وألقت التحية علي الجميع ، اندمجت و نست ذلك الحوار الغريب بينها وبين السائق.
في فترة الراحة وبينما كانت تجلس بجوار سيدة في منتصف العمر يستعرضان معالم المدينة و أهم الأماكن السياحية التي يزورونها، قالت لها السيدة الأجنبية في معرض الحوار:
- هل تعرفين أنني اشفق عليكي
- (ردت بذهول) لماذا؟
- قالت بابتسامة ؛لأنك تضعين هذا الغطاء حول رأسك و ترتدين كل تلك الملابس لتغطية جسمك، في حين أننا ننتهز الفرصة لنتخفف منها علي قدر المستطاع، و ضحكت ضحكة صغيرة وكأنها تمزح.
- قررت ألا تشرح وألا تسكت هذه المرة ، فقالت بجدية ؛ إني حقا أود لو أنك لا تشفقين علي من شئ لا يؤثر في اطلاقا!
- أنهت جملتها ونظرت في الساعة حيث حان موعد العودة للعمل و استأذنت بأدب و انصرفت و هي تفكر (لا لقد زادت الامور عن حدها ! )